برز مفهوم حفظ الذاكرة الجماعية، كمطلبٍ كوني، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية عصر الاستقلالات الوطنية في عديد من دول الجنوب. وهذا ما جعل “بيير نورا”، صاحب كتاب “أماكن الذاكرة” يصف تاريخ الزمن الراهن بعهد الانبثاق الكوني للذاكرات. فسواء تعلّق الأمر بما خلّفته الحروب الامبريالية والاستعمارية الغربية (الهولوكوست النازي)، أو بما خلّفه تقاطُب واحتدامُ الصراع والتناقُض، بين الأطراف والخيارات، المطروحة إبان لحظة الاستقلالات وبناء مشروع الدولة المستقلة.
الانتهاكاتُ المُستهدِفةُ لكرامة الإنسان وحرية الشعوب، ظلّتْ لصيقةً بالذاكرة وتأبى النسيان. ومن ثمة، صار القطعُ مع جراحاتِ وعذاباتِ الماضي، ضماناً لعدم تكرارِ هذه الجراحات والعذابات في الحاضر والمستقبل، يشكلُ مجال اهتمام وعمل كل الحقوقيين الأصلاء في العالم، وكذا الباحثين والفاعلين وقوى المجتمعات الحيّة هنا وهناك.. في المغرب مثلاً، ارتبط مطلب حفظ ذاكرة سنوات الرصاص، بالتجربة المغربية في العدالة الانتقالية، مع هيئة الإنصاف والمُصالحة (يناير2004/ نوفمبر 2005). التي عملت على كشفِ حقيقةِ وحجمِ الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، على ضوء الأسباب والنتائج التي أدّت إليها، في الفترة التاريخية المُمتدة من سنة 1956 إلى 1999. فهذه التجربة، وقد أكملتْ عقدها الأول حتى الآن، فإنها تدعو إلى تقييم ما تحقّق من توصيات همتْ حفظ الذاكرة للتصالح مع الذات الوطنية والتاريخ. فبالرغم من أن “هيئة التحكيم المستقلة” (1999)، اقتصر تدبيرها لسنوات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان على تعويض الضحايا مالياً، فإن المناظرة الوطنية حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان (نوفمبر 2001)، أكدت مفهوم جبر الأضرار، بما يفترضه من كشفٍ للحقيقة، بتحديد الوقائع والضحايا والمسؤوليات، بالإضافة إلى ضرورة الحفاظ على الذاكرة. وذلك ما نصّت عليه توصيات هيئة الإنصاف والمُصالحة. لقد تمكّن الضحايا، وفي لحظة التفاؤل الجماعي بتقاسُم وتشارُك الجراحات والعذابات، بالبوح عما تختزنه الذاكرة عما جرى من خلال جلسات الاستماع العمومي، وبالأمل في الإنصاف والمُصالحة مع الذات ومع المجتمع والدولة والتاريخ. كما تمكّن العديد من الضحايا من إنتاج ونَشْر العديد من الأعمال السردية المُعتبَرة، أغنتْ آداب السجون وبعض الفنون الموصولةِ بمُعاناة الأسر. وبالمقابل عمل سينمائيون حينها، على إنتاج أفلام وثائقية وأخرى تَخْيِيلية في هذ المجال، أثْرَتْ هي الأخرى مُصنّفات الفيلموغرافيا المغربية… ولما آلت متابعة توصيات الهيئة إلى “المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان”، فإن المجلس أحدث بهذا الخصوص برنامجاً لمواكبة توصيات الهيئة في مجال الذاكرة والأرشيف والتاريخ، بتمويلٍ من الاتحاد الأوروبي. لقد ظلّ الطموح، حينها وبعدها، مُرتبطاً باستحقاقِ تحويل مراكز الاعتقال السرّية السابقة والمواقع ذات الرمزية التاريخية، إلى متاحف أو مواقع للذاكرة والضمير. وهكذا، تم تنظيم ندوات دولية في كل من الحسيمة، ورززات والدار البيضاء. كما تم تشخيص تلك المراكز وتقديمها في كتاب أنيق. بل، تم الشروع في ترميم بناية وسط مدينة الحسيمة، لتحويلها إلى متحف لذاكرة الريف. غير أن مُقاربة المجلس الوطني ومعه مؤسسات الدولة المعنية حالتْ دون الإنجازات الفعلية والانتظارات المُبتغاة سواء من قِبَل الضحايا أو من قِبَل عموم المجتمع المغربي لعلّ العوائق تعود بالأساس، إلى انحصار الإرادة والحماس، الذي أبدته بعض مؤسسات الدولة المعنية، بفعل استبدالها الأجندات والأولويات. بالإضافة إلى عدم إشراك الضحايا وجمعياتهم وكل الطّيف الحقوقي والثقافي والفني في مُقاربة حفظ ذاكرة سنوات الرصاص في المغرب. إنه لم يكن من الغرابة في شيء والحال هذه، أن يلجأ نُشطاء الحراك الشعبي في الريف إلى استبدال حطام وأطلال مشروع “متحف ذاكرة الريف” في مدينة الحسيمة، باستعارة الساحة العمومية المتواجدة قُبالته، لإقامة “أغورا” أو “متحف حيوي خارج الأسوار”… فطيلة أشهر من سنتيّ 2016 و2017، تمكّنتْ ذاكرة الريف من التداول، بالنشيد والشعار والكلمة والصوت والصورة واللوحة، وانبثقتْ ذاكرة منسيّة من رماد النسيان، من خلال الاحتجاج ضد التهميش والفساد والانتهاك لكرامة الإنسان، وعَبْر المطالبة بالعدالة الاجتماعية والإنصاف والكرامة الإنسانية.
لقد تُدُووِلتْ، في فضاء “الأغورا” أو “المتحف خارج الأسوار” (إن جازت التسمية أو هذا التوصيف)، رموزُ وأيقوناتُ البطولة كما تُمثلها حركة التحرّر الوطني، بقيادة المجاهد محمّد بن عبد الكريم الخطابي. وكذا، باستعارة لوحة “غرنيكا” ـ بيكاسو، للدلالة ربما، على الذاكرة المشتركة بين ضفتيّ المتوسّط إبان الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939). وفي غياب التفاعُل الإيجابي للدولة مع الانتظارات المجتمعية، في تثمين الذاكرة الجمعية للأمّة المغربية، بالتصالُح مع الذات الوطنية وما بين الدولة والمجتمع والتاريخ، يبدو الآن، أن العقل السياسي للدولة انزاح عن أهداف وتوصيات التجربة المغربية في العدالة الانتقالية، كما لو كان استقواءً بالمقاربة الأمنية، ولا شيء أكثر من ذلك؟