يواصل الناقد المغربي يحيى بن الوليد تناول «الكتابات ما بعد السجنية» بالمغرب، والتي تتناول تجربة الاعتقال السياسي، ويخصص هذه الدراسة لجرح الاعتقال الذي عانته المرأة المغربية. كاشفا عن المشترك والمختلف بين كتابات الرجل وكتابات المرأة في هذا المجال، وعن خصوصية الكتابة السجنية التي تميزها عن غيرها من كتابات المرأة المغربية.
بالنظر إلى “طفرة الكتابات ما بعد السجنية بالمغرب”، والتي سبق لنا أن عالجناها في دراسة مطولة نشرت هنا في مجلة «الكلمة» (العدد 15، مارس 2008)، لا يبدو غريبا أن تلج المرأة دائرة هذه الكتابات، وكل ذلك في المنظور الذي أفضى بها، وتحت تأثير “عبء الذاكرة”، إلى أن ترادف بين الكتابة والمواجهة التي تتخذ أبعادا عارية ومباشرة على نحو ما نجد في عمل فاطنة البيه «حديث العتمة» الذي نشرته دار الفنك المغربية عام 2001. وهو، وحتى الآن، عملها الوحيد إلى جانب عملها المشترك مع يوسف مداد «أطلسيات: شهادات من خلف الستار» (2006). ودون التغافل عن بعض مداخلاتها وردودها، وهي معدودة. ويعد هذا العمل من الأعمال الأولى على طريق الطفرة سالفة الذكر، وخصوصا من ناحية “جبهة الشهادة” التي آثرت من خلالها صاحبة العمل تسريب “رسالتها” داخل بلد أخذ، ومنذ مفتتح التسعينيات، يتململ، وبالقدر نفسه أراد أن يطوي، ورسميا، صفحة “ماضيه الأسود” على مستوى الملف الحقوقي. ولا يمكن لهذه الصفحة أن تطوى دون جرد خطوطها العريضة، بل وتفاصيلها الدقيقة، واعتمادا على أشكال عديدة، قد، تتقدمها الكتابة التي تنفرد بخواص تعبيرية وتمثيلية كثيرة. والمقصود، هنا، الكتابة أو بالأحرى الكتابات، ما بعد، السجنية التي يعرض فيها أصحابها، وبتفاوت، لما كانوا قد نالوه من تعذيب شنيع وإذلال مهين على مدار السبعينيات الصاعدة.
وميزة عمل فاطنة البيه أنه مكتوب من موقع “التجربة” لا من موقع “المسافة”، أي من داخل ما تسرب في “الذاكرة” (وبمعناها المستقبلي لا الماضوي فحسب) من “كلمات ـ أشياء” نتيجة أعوام “الإقامة القاسية” في السجن وما رافق مثل هذا النوع من الإقامة من إحساس وشعور وسواء على صعيد الوجود أو التصور. ولا يبدو غريبا أن تختلف الكتابة القائمة على التجربة، وفي حضورها الذاتي الحدي، عن الكتابة القائمة على المسافة التي ولج دائرتها كتّاب محترفون. وحتى إن كانت هذه الكتابة الأخيرة لا تخلو من أهمية، وخصوصا من الناحية الأسلوبية، وحتى التاريخية من ناحية موازية، فإنها، في تصورنا، لا تفرض ذاتها، وبذات القوة والإلحاح، على المؤرخين وعلى المنشغلين بالرأي العام والنشطاء الحقوقيين. ومهما كانت درجات “الامتلاء”، وعلى مستوى المفردة ابتداء، في كتابات “المسافة” فإنها لا ترقى إلى درجات “الشبحية” في كتابات التجربة. فثمة، وفي النظر الأخير، بون بين الكتابة المتحدِّرة من نزيف السجن والكتابة المتحدرة من نشيد الحبر. وثمة بون بين الكتابة من داخل “التصدّع” ومحاولة كتابة التصدع. غير أن ما سلف لا يومئ إلى أي نوع من “التراتبية القمعية” التي بموجبها تعلو قيمة الكتابة/ التجربة على قيمة الكتابة/ المسافة.
ولقد ظلت الكتابة، وفي الأغلب الأعم، حكرا على الرجل وكأن الأمر من باب العمل بنصيحة “لا تعلموهن الكتابة” التي هي نصيحة قديمة/ جديدة، إضافة إلى أنها لا تحيد عن دلالات ما أسماه البعض “الاستعمار الفقهي”. وتتضاعف دلالات هذا الاحتكار، أكثر، في سياق الذكورية القامعة والفكر الذكوري القامع، ولا سيما حين يتأطر هذا الفكر ضمن سياق أعم وأشمل هو سياق عنف الدولة والمجتمع (البطريركي، هنا). وحتى في لحظات طمس الذكورة، بل ومحاولة استئصالها، كما في حال الانتهاء إلى جحيم السجون، يظل الرجل هو المهيمن على مستوى كتابة فصول “الاعتقال” ومشاهد “الإذلال”. ويحصل كل ذلك مع أن المرأة بدورها تلقي بـ «شرطها” في حمم المواجهة تأكيدا لوصية شهرزاد لبنات جنسها في توطيد جدارة الكتابة بشوارب نسائية في سياق الحلم ببناء “دولة مدنية” لا يمكنها أن تكون وقفا على الذكورية بمفردها. وعلى هذا المستوى عانت المرأة “قمعا مزدوجا”: قمع الذكورية وقمع السجن.
وفي ضوء ما سلف لا يبدو نشازا أن تنحت فاطنة البيه، وعلى أرض الكتابة ـ المقاومة، عبارة “جرح الاعتقال بتاء التأنيث” في دلالة على الوقع المغاير، والهادر، للاعتقال على المرأة أو “نون النسوة”. وعبارة “نساء العالم الثالث” التي سكتها نَصيرتَهُنَّ الناقدة الهندية الشهيرة، ومنظِّرة “خطاب ما بعد الاستعمار”، جياتري شاكرافورتي سبيفاك، وفي منظور طبقات القمع التي تطالهن، تعيد إلى الأذهان استرسال “الظاهرة الاستعمارية”. وهو ما تؤكده “مغاور السجون” التي لا تقل خطورة عن أنفاق الاستعمار، هذا إذا ما لم نقل بأن السجن يبدو الأعنف والأرعن حينما يتحول فيه “الجلاد الحانق” إلى “معمِّر غاصب” وخصوصا من ناحية “لسانه” الذي يتحول، وفي حال المرأة تعيينا، إلى “قضيب” يتربص بمواطن النبض أو الدفق في الجسد. وفي مثل هذا السياق المعاكس، أو “الانزلاق السادي” كما عبَّر عنه البعض، لا تملك هذه الأخيرة، وحفاظا على مُوَلِّدِ التوَطُّد والانغراس اللامرئي، إلا أن تتكور كقنفذ أملس داخل نفق السجن الذي يطاله القمع من جميع الجوانب.
لقد كان لفاطنة البيه شرف إلقاء الحجر في تلك البركة الراكدة والآسنة التي يعلمها الكثيرون والكثيرات. وقلة قليلة جدا من نساء زماننا المغربي هذا من بادرن أو بالأحرى تجرأن على الكتابة في الموضوع، أو استعن بكتاب آخرين، مع أن عددهن كثير ومع أن ما جرى لهن لم يكتب بأكمله ولو على مستوى الإيجاز لا الإطناب أو الإجمال لا التفصيل. لقد أصرّت فاطنة البيه، وإلى حد ما، على “تفجير المكبوت السجني”، وكل ذلك في إطار من رصد، وعبر “فلترة الذاكرة”، ما كان قد جرى لها أثناء فترة الاعتقال في نطاق ما تنعته أدبيات اليسار الجذري بـ «المجموعة الثانية» التي ضمت ست معتقلات سياسيات في مقتبل العمر، هن: لطيفة الجبابدي ومارية الزويني وخديجة البخاري وبودا انكية ووداد البواب وفاطنة البيه. وهي المجموعة التي تلت المجموعة السياسية الأولى التي ضمت فاطمة عكاشة وربيعة لفتوح جنبا إلى جنب المعتقلة الشهيرة سعيدة المنبهي (1952 ـ 1977) التي فارقت الحياة في أحد مستشفيات الدار البيضاء، نتيجة إضراب تاريخي شهير (مجموعة 139) خيض من أجل فرض حقوق المعتقل السياسي، وعلى وجه التحديد في الحادي عشر من شهر ديسمبر من عام 1977. ومعنى ما سلف أن “اختيار” فاطنة البيه يندرج ضمن تجربة “اليسار”، وأن عملها يندرج ضمن “النظرة المدنية” تمييزا لها عن “النظرة العسكرية” التي عكستها “نصوص تزممارت”.
وقد اعتقلت في الرباط، وبعد أن أخذت تدرس علم الاجتماع في كلية الآداب والعلوم الإنسانية. ذلك “التخصص” الذي كان يسارع نحوه كثيرون والذي كان ــ وبمعنى من المعاني ــ لا يفارق “أحلام اليسار”. هذا بالإضافة إلى تأثير بعض أسماء هذا التخصص كالسوسيولوجية فاطمة المرنيسي التي ستأخذ، وباعتبارها أستاذة جامعية، وبتعاطف أيضا، في التردد على البيه في السجن. وقد اعتقلت صاحبة “حديث العتمة” بسبب من انخراطها السابق في التنظيم السري “النقابة الوطنية للتلاميذ” ومنذ أن كانت تلميذة في إحدى ثانويات الدار البيضاء. وهو الانتماء نفسه الذي كان وراء اعتقال الطاهر المحفوظي، وهو ما يعرض له هذا الأخير في كتابه/ شهادته «أفول الليل» (2004). هذا بالإضافة إلى أن عمل فاطنة البيه، وداخل النظرة المدنية ذاتها، يتباعد عن الأعمال التي صاغتها أسماء تنتمي لمؤسسة الأدب والفكر (وبالفهم الإيديولوجي الذي ساد وقتذاك) كعبد القادر الشاوي وعبد اللطيف اللعبي وعبد الله زريرقة.
ولا يبدو نشازا أن يستند العمل إلى جبهة الشهادة التي سلفت الإشارة إليها من قبل، ونسبة هذه الأخيرة تبدو غالبة وهي تزيد على ستين في المائة تبعا لإحصاء أحد المهتمين بموضوع الكتابات السجنية بالمغرب وهو الباحث جعفر عقيل. ولسن، هنا، بحاجة إلى بسط الفوارق بين الشهادة وباقي الأشكال المعتمدة في الكتابات السجنية، وهو فرق يتأكد من خلال الأداة والماهية والوظيفة التي تلازم كل شكل على حدة. ومن ثم تبدو الشهادة الأقرب على مستوى البوح الممزوج بالإدانة وفي إطار نوع من “التأريخ”، القريب، لجانب من مرحلة السبعينيات اللاهبة والمفصلية في التاريخ السياسي الحديث للمغرب. المرحلة التي كانت فيها مجموعات سياسية وتيارات إيديولوجية بأكملها تسارع نحو الانخراط في هَديرِها وزئيرها. ولا يحيد العمل عمَّا يسميه الرطان النقدي المعاصر بـ”الحكاية ــ الإطار” التي تلازم أغلب الكتابات السجنية. تلك الحكاية التي تصل ما بين لحظة الاعتقال، ومرحلة الاعتقال، وما بعد الاعتقال. وعلى هذا المستوى كثيرا ما يتم التركيز على مرحلة الاعتقال مقارنة مع حدث الاعتقال الذي لا يعدو أن يكون مجرد لحظة جنبا إلى جنب ما بعد الاعتقال الذي كثيرا ما يتم التغافل عنه في الكتابات ما بعد السجنية وعدا في حالات معدودة كما فعل عبد الفتاح فاكهاني وجواد مديدش.
وفيما يتعلق بالاعتقال أو “الواقعة العظمى”، كما ينعتها البعض، فقد تم اعتقال فاطنة البيه، وسيرا على نهج الاعتقال المعمول به، بطريقة مفاجأة لكن في واضحة النهار. وحصل ذلك بعد أن كانت، وفي نطاق الروتين اليومي، قد أخذت لنفسها حماما في الصباح. تقول: “كانت الساعة تشير إلى الثالثة بعد الزوال حين طرقت باب منزل صديقتي بحي المحيط، وقد فوجئت بالباب يفتح بسرعة لتجذبني عبر الفتحة يد غريبة، وبقوة إلى الداخل. هرب صديقي الذي كان يرافقني حين شعر أن المنزل محتل فلاحقه أحدهم، انطلق كالسهم وراءه، ثم عاد به بعد أن مزق ثيابه … كانا مسعورين، رجلين بزي مدني، لكنهما مسلحان، أحدهما يشد سلاحه حول خصره، والثاني أشهر سلاحه في وجهي مرتين”. وكما تلخص صاحبة العمل: “كانت هذه بداية حكاية الاختطاف التي ستدوم خمس سنوات، والتي تشبه بعض فصولها حكايات ألف ليلة وليلة … (ص 10ـ11).
وفيما يخص المحاكمة فقد أمضت فاطنة البيه ثلاث سنوات في انتظار الحكم، وقد افتتحت هذه الثلاث سنوات بسبعة أشهر في درب مولاي الشريف سيء الذكر. ويوم الذهاب إلى المحاكمة، ودون علم من المجموع، كان أشبه بالذهاب إلى الإعدام أو الشنق. وتصف المشهد قائلة: “لقد اختطفتهم السيارة بسرعة جنونية من السجن إلى المحاكمة حيث أحاط بهم رجال البوليس واقتادوهم إلى غرفة كبيرة.. أمروها بالجلوس في طاولة منفردة في صف طويل من الطاولات حيث لا أحد: لا محامين ولا كتاب ضبط. خيل إليها أنهم يساقون إلى الإعدام أو الشنق، حتى في هذه المرحلة لم يتم إخبارهم بأي شيء، تحاط أمورهم بهالة من الكتمان والطي…” (ص56).
ولا نجد كبير صعوبة في أن نحصي السجون التي أمضت فيها البيه سنوات الاعتقال. وأولها درب مولاي الشريف الذي افتتحت فيه فجيعة الإقامة. ذلك المعتقل الرهيب الذي لا يتم فيه التمييز بين الليل والنهار، والذي حصدت فيه تلك الأنواع من الأمراض التي عادة ما تلازم ما تبقى من الحياة. وقد تمكنّت من التعرف على المعتقل من خلال صوت الجلاد الأشهر، وقتذاك، قدور اليوسفي جنبا إلى جنب عتاة الجلادين، وسيئي الذكر، من الخالدين في تاريخ السجون المغربية. تقول: “لقد تعلمت التعرف عليهم من روائحهم وأشكال أحذيتهم، بل إن رسوم الأصابع التي تخلفها صفعاتهم، حين أمر بيدي أتحسسها وأسجل الإهانة، أميز يد اليوسفي ويد عبد اللطيف، ويد الجمل ويد الأيوبي وغيره …” (ص18). وبعد ذلك يأتي دور سجن “اغْبيلَة” بالدار البيضاء الذي حطت به المجموعة غداة استشهاد سعيدة المنبهي، وسجن سيدي سعيد بمكناس، وسجن لعلو في الرباط، والسجن المركزي بالقنيطرة، ودار العريفة بسيدي قاسم. والمؤكد أن هذه السجون متفاوتة، ولا يمكن للحديث عنها أن يحيد عن “المواجع” تبعا للمفردة التي ترددها البيه وسواء في “حديث العتمة” أو في شهاداتها المفتوحة. ولذلك كان سجن مكناس، وبزنزاناته، أشبه بفندق من خمس نجوم كما تقول لطيفة الجبابدي في نص شهادتها المتضمن في الكتاب (ص132). وتؤثث نفق السجن المفردات التي تؤثث أغلب الكتابات ما بعد السجنية، تلك المفردات التي تندرج ضمن ما يعبر عنه بـ «المعجم السجني”. وتتصدر هذا المعجم، في “حديث العتمة”، مفردات أو “كلمات ــ أشياء” كالزنزانة والكاشَّة والمرحاض والطائرة والحُجاج… إلخ. هذا بالإضافة إلى ما تسلكه الذات، في ظل هذه المفردات، من رياضة وتنكيت وقراءة وترتيب الزنزانة… وكل ذلك في سياق ما يمكن نعته بتدبير الوقت داخل المعتقل وبالتالي صيانة الذات من “الخراب الداخلي”.
وحتى إن كان العمل، وكما أسلفنا، مكتوب بعد خروج صاحبته من السجن فإنه لا يكترث بما بعد السجن عدا، وهو ما يبدو مألوفا في الكتابات ما بعد السجنية، إشارة إلى المرض الذي خرجت به صاحبة العمل. تقول: “جين غادرت المعتقل كنت نحيفة وشاحبة، وكنت محطمة نفسيا، كانت السبعة أشهر التي قضيتها في الدرب مصدر هذا التدهور الصحي والنفسي، وجاء السجن ليعمق خطورة هذه الأوضاع: روماتيزم حاد في كل نوبة.. ” (ص 36ــ37). غير أن ردود صاحبة العمل وشهادتها تفيد أنها غير نادمة على التجربة، وأنه لم يغرر بها … وإنما زاولت العمل السياسي من موقع الاختيار والقناعة.
وحتى إن كنا لا نرغب في أن نثير النقاش النظري حول “الأدب النسائي” و”أدب المرأة”، وبالتالي الفرق الحاصل بين التسميتين، فإن ذلك لا يحول دون الإشارة إلى أن عمل فاطنة البيه منجز من منظور أنثوي جلي تبدى، وأول ما تبدى، على صعيد اللغة التي هي عماد الكتابة. ولذلك ساد العمل، وعلى مستوى المراكز الدلالية ودورانها الدلالي، ما لا يحيد، عادة، عن “عالم المرأة”. ومن ثم لا يبدو غريبا أن تتقافز، وعلى مستوى الذاكرة، أنياب التحرش الجنسي والتهديد بالاغتصاب… وغير ذلك من الأشكال “المباحة” التي كانت تتجاوز نزعة “المعلومة” نحو الإصرار على زحزحة “الموقف” الذي كانت تحرص المرأة على الحفاظ عليه وسط دغل السجن. غير أن السجن الذي كان يستوعب فاطنة البيه، جنبا إلى جنب رفيقاتها من المعتقلات السياسيات، كان يستوعب أيضا معتقلات الحق العام من منحرفات بل وقاتلات لكن في حالات غير سوية مما كان يجبر على إحالتهن على أطباء نفسيين شأنهن في ذلك شأن ذلك الشاب الذي قضى ليلة تحت الرفس والضرب حتى تضرج في الدماء لأنه ادعى “النبوة” (ص123). غير أن المعتقلات السابقات لم تكن من المجرمات اللواتي يضاعف حضورهن من مرارة السجن على غرار المجرمين القساة من الذين يحكمون بدورهم السجون ويهددون السجناء الضعاف. إنهم الوجه الآخر لـ”المجتمع السجني” كما تنعته الكتابات التي اهتمت بموضوع السجن.
وتقول صاحبة العمل بأنها لم تكن وحيدة، غير أنها، وبالنظر إلى سند الشهادة، التي تسعى إلى تبليغها، تركز على ذاتها فقط وفي المنظور الساعي إلى الحفاظ على جوهرها الأنثوي الأصيل داخل أدغال السجن الذي تسوده، وعلاوة على الاعتقال، لغة ذكورية قمعية إجرائية ومباشرة وقبل ذلك مسلكيات ذكورية لا تقل عنها قمعا. وقد تأكد هذا المنحى منذ لحظة الاعتقال: “المختطفون رجال: وقد كانوا يحتلون منزل خديجة زميلتي في الكلية” (ص11). وتشرح: “لن أنسى ما حييت طعم تلك الليالي الممزوج بدخان سجائرهم وروائحهم وركل أحذيتهم، لقد كنت أستيقظ من غيبوبتي لأجدني وسطهم، ينتظرون إعادة الكرّة” (ص18). وحتى إن كانوا يشكلون “جهازا” (ص20) فالكاتبة تنعتهم بـ”الكلاب”: “المسعورة” تارة (ص12)، و”الضالة” تارة” أخرى (ص24). وكما تقول، وفي واحدة من العبارات الدالة والمكثفة، هذا الرجل “حانق عليَّ” (ص14) في دلالة على “العنف” المتولد لا من السلطة، وإنما من الذين يمتلكون هذه السلطة ويتصرفون فيها.
وفي قاموسهم فالمعتقلة، التي انتهت إلى السجن، وعن اختيار وقناعة كما أسلفنا، هي “زعيمة الفوضى”. وهذا الحكم أخف وألطف من حكم “الزانية وابنة الزانية”. إنه “العنف المضاعف” أو “المزدوج”: عنف السجن وعنف الرجل. وحتى “السجَّانة”، التي من المفروض أن تتعاطف، ولو باطنيا مع بنات جنسها، تقوم بهذا الدور، بل ولا تقل شراسة عن الرجل كما في حال “لا لا العزيزة” التي لا صلة لها، وسواء من قريب أو بعيد، بالعزة والإباء؛ وهو وما أكدته العديد من مسلكياتها. غير أن الفكر الذكوري القامع يبرز أكثر، وبوقاحة هذه المرة، في استبدال اسم “فاطنة” بـ”رشيد” في دلالة على مخطط محو الهوية ومقصدية الإذلال واستئصال الأنوثة؛ وهو ما سلكوه مع باقي المعتقلات، وهو أفظع من اختزال المعتقلة في مجرد رقم فقط. ففي عرف هؤلاء لا يقبل من المرأة أن تفارق دائرة “الحريم” أو دائرة “فن إبداع المنزل” كما عبّر عنه بعض دارسي موضوع المرأة. وأما أن تحاول الحضور في “الحيز العام”، وأن يكون لها تأثير في “الرأي العام”، فهذا تطاول مرفوض ومرذول ومنبوذ. والخلاصة، هنا، أن المعتقلة لا صلة بـ”عالم النساء”. يقول لها الجلاد: “أنت الآن في عرفنا رجل، ولذلك يصدق عليك ما يصدق عليه، صحيح أننا لا نضع أصفادا على معاصم السجينات، ولكن أنت لا مكان لك بينهن، لا مكان لك بينهن، لا مكان لك في عالم النساء” (ص57).
ومن ثم تكون المرأة مطالبة بالمقاومة وعلى هذا المستوى ابتداء: أي مستوى “تثبيت الهوية”. وقد عبرّت لطيفة الجبابدي في وضوح تام عن الفكرة ذاتها في نص الشهادة قائلة: “كان الموت حقا أهون من السقوط، لا لأنني مناضلة أعانق قضية وحسب، بل لأنني أيضا امرأة، ولم يكن يحق لي أن أضعف كي لا أخذل المرأة في…” (ص128). ولذلك فالمطلوب الارتقاء بنفق السجن إلى باحة للمقاومة عن طريق “تعطيل الحاضر” وعن طريق تنشيط “عمل الذاكرة” و”فنّ الخيال”.
وبقي أن نشير إلى المرتكز العقدي الذي أفضى بفاطمة البيه إلى السجن أو بالأحرى السجون سالفة الذكر. وليس من شك في أنه لم يكن جميع المنخرطين في العمل السياسي، وسواء السري أو المباشر، كانوا مستعدين لدخول السجون حتى وإن كانوا صادقين في أقوالهم وسلوكهم بل وحتى إن كانت مبادئ بعضهم تسير فوق الأرض إذا جاز أن نقتبس، وببعض التعديل، إحدى عبارات «سيرة رماد» خديجة مروازي. وعلى مستوى هذا التصور العقدي لا نجد قولا مفصّلا بخصوص التنظيم السري الذي انخرطت فيه صاحبة العمل وداخل واقع “قضبانه حديدية” كما نعته (ص51). وفي هذا الصدد لا نجد إلا إشارات معدودة إلى حلم “بناء الوطن” (ص44)، الذي تكررت صيغته في مواضع معينة، جنبا إلى جنب “أبناء الوطن الشرفاء” من العالقين، وأكثر من غيرهم، بهذا الحلم. ومعنى ذلك أن صاحبة العمل، وعلى حد تعبيرها، “لم تلق قنابل، ولم تركب دبابات” (ص57) من أجل إسقاط “التاج”. غير أن الحلم سالف الذكر، والذي كان، وللمناسبة، يتأطر داخل سياق أوسع هو سياق أحلام الثورة والاشتراكية، كان يندرج ضمن جريمة لا تغتفر وهي “جريمة التفكير” كما نعتتها صاحبة العمل (ص58). وتفكير مثل تفكيرها كان “مجرما” و”محظورا” و”مغضوبا عليه”.
وحتى الآن ما تزال صاحبة العمل حريصة على عدم خدش ماضيها الإيديولوجي النبيل وغير المشكوك فيه حقا، وكيف أن هذا الماضي كان يندرج ضمن ما تنعته بعض الكتابات السياسية بـ”الصواب السياسي”. ولا نظفر بأي إشارة، وسواء على مستوى التضمن أو اللزوم، يمكن إدراجها ضمن خانة “النقد الذاتي” الذي عادة ما يتحدر من سند المثقف الكامن في أداء الناشط أو المناضل. ولعل هذا ما كان يندرج ضمن ما يمكن نعته بـ”أخلاقيات السبعينيات”، وهي أخلاقيات كان لها امتداد خارج المغرب أيضا. ولم يعد لهذه الأخلاقيات أي أثر في “مغرب اليوم”، وخصوصا في المدار الذي يقرن العمل السياسي بالواجهة الحزبية التي صارت شائخة ومهترئة ومعطوبة. وعلى أية حال لا يزال هناك من يصر على نعت السبعينيات بـ”الفترة الجميلة”، وتلك “قصة أخرى” كما يقال.
وفي إطار من “وضوح العمل” يمكن التشديد على طابع “الشهادة” التي تلتبس بـ”الإدانة”: إدانة الدولة بصفة عامة وإدانة عنفها السياسي بصفة خاصة. ومن ثم يتلاشى، وعلى أرض تدافع الشهادة/ الإدانة، “شرط الكتابة” في عوالمها التخيليلة (المحتملة) التي لا تتعارض والكتابة في موضوع السجن. فالكتابة، هنا، ومن حيث هي كتابة “احتدامية” أيضا، لا تعدو أن تكون مجرد “قناة” تهدف إلى محاولة الإسهام في “جرد ما جرى” ومن منظور ذاتي/ جماعي غاضب وغير حانق. وكما أن الهدف، وعلى ما تتيحه الكتابة من “تنفيس” (وبالمعنى المبلور في التحليل النفسي، أيضا)، هو “التأريخ” لجانب من أرشيف السبعينيات المظلم والحالك. والتأريخ، في العمل، لا يكشف عن ذاته في وضوح تام… فهو مندغم في “نص الشهادة”. وكما أنه ممزوج بـ”التسمية” حتى وإن كانت صاحبة العمل لا تغرق في “التدقيق” و”التفصيل” أو في “جرد الجرد” إذا جاز مصطلح غرامشي. فهي تسعى إلى عرض “الخطوط العامة” أو “المقاطع الكبرى” في “الحكاية” وفي المنظور الذي يسعى إلى تقريب “الألم” و”تحيين الأطراف المتورطة”. وفي هذا السياق كذلك أمكننا فهم تضمّن العمل لشهادات معتقلات رافقن صاحبة العمل في “العتمة” وواصلن معها “حديث العتمة”. هذا بالإضافة إلى نص التقديم ونص الإهداء المطوَّل. ثمة نوع من الرغبة في “الرد دفعة واحدة”.
وحتى إن كان هذا النوع من التأريخ لا يفرض ذاته بحدة على المؤرخ الذي عادة ما يحتاط من الكتابة التي لا تخلو، وحتى في لحظة السجن الموضوعية، من نبرة ذاتية وحتى عاطفية في أحيان، وكما في حال عمل “حديث العتمة”، فإن هذا الأخير لا يمكنه القفز على مثل هذه الوثائق (القريبة) في سياق محاولة “فهم ما جرى”. ذلك الفهم الذي لا فكاك له من “الإدانة” ولو “الهادئة” لا “الزاعقة”، وكل ذلك في المدار الذي لا يفارق مناط “شرف المواجهة” لا “لوثة المخايلة”. ولكن هل قال العمل كل ما كان ينبغي قوله؟ لقد قال، ومن جانب لا يستهان به، ما يجب قوله… ويكفيه، وقد يكون هذا الأهم، شرف الانتساب للمواجهة بمعناها الأشمل والأعرض.
سؤال التجنيس من جديد
ما من شك في أن المقال أعلاه يصدر عن تفكير عميق كما يصدر عن أصول نظرية واضحة سواء في المقدمات التي ينطلق منها الكاتب أو النتائج التي ينتهي إليها، غير أنه مع ذلك يبدو في رأي الشخصي أنه يقدم بيان دفاع عن المنهج لا للعمل موضوع التحليل أي المنهج كأنطولجيا أو باعتباره منهجا متحققا لا منهجا للتطبيق، من هنا ننفد إلى السؤال الأساس حول قابلية المنهج المقترح في تجنيس هذا النمط من الكتابة بصور تؤول إلى توسيع نظرية الأدب بشكل يخول له أن يستوعب أنماط من الكتابة من خرج المدونة الأدبية أو على الأقل على تُخومِها. من هنا يمكن أن نقول: إن بناء مفهوم الذاكرة يمكن أن يكشف حدود الأدب بمعنى أن الأدب هو سؤال الذاكرة أي الواقع الذي أصبح متخيلا فتلاقي حدود الخيال بالذاكرة يفرز أدبا.
لتحميل المقالة بصيغةPDF